26 ذو القعدة 1446 هـ   24 أيار 2025 مـ 12:09 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-05-23   41

هل ينوب الله عن الإنسان؟ إشكالية تنصل الإنسان من مسؤولياته


الشيخ معتصم السيد أحمد
تُثير العديد من التصورات حول القضاء والقدر إشكالات فكرية في فهم العلاقة بين إرادة الله وإرادة الإنسان، خصوصاً من قبل التيارات المناهضة للدين. إذ يتساءل البعض: طالما أن الله خالق وعالم بحال خلقه، فلماذا لا يتدخل في رفع المظالم التي تقع على الناس؟

هذا الفهم السلبي للعلاقة بين إرادة الله وإرادة الإنسان يساهم بشكل كبير في تراجع مسؤولية الإنسان تجاه التحديات التي يواجهها في الحياة. فالتصور الذي يرى أن كل شيء في حياة الإنسان مقدر ومنتهي، وأن الإنسان عاجز عن تغيير ما سطر له، يعزز حالة الاستسلام ويغرس الجمود في النفس، مما يفقد الفرد الإحساس بالمسؤولية الشخصية والاجتماعية. وبالتالي، يصبح الإنسان أسيراً لهذا الفهم المغلوط، متناسياً دوره الفاعل في إحداث التغيير الذي يعزز من جودة حياته ويسهم في إصلاح المجتمع من حوله.

وقد تعززت هذه الفكرة من خلال بعض التفسيرات المشوهة للقضاء والقدر في بعض التيارات الإسلامية، التي ترى أن الإنسان يتحرك ضمن خيارات قد تم رسمها سلفاً، ولا يمكنه تغيير مصيره. ورغم شيوع هذه الفكرة في بعض الأوساط الفكرية، فإنها تُعدّ فهماً خاطئاً لماهية العلاقة بين إرادة الله وإرادة الإنسان، ففي الإسلام لا يتناقض القضاء والقدر مع حرية الإرادة البشرية، بل يكمل أحدهما الآخر ضمن إطار مسؤولية الإنسان في حياته.

فإرادة الله هي الإرادة الشاملة التي تهيئ للإنسان الظروف والإمكانات اللازمة لتحقيق أهدافه، بينما إرادة الإنسان هي التي تحدد كيفية استخدام هذه الإمكانيات والظروف لتحقيق أهدافه، وهكذا تفهم إرادة الإنسان على أنها جزء من الخطة الإلهية التي تمنح الإنسان مكانته في هذا الكون وتُتيح له الفرصة لتحمل المسؤولية.

هذه المسؤولية تعني أن الإنسان يملك القدرة على اتخاذ القرار الصحيح أو الخطأ، بعد أن وضع له إرشادات من خلال أوامر ونواهٍ إلهية تهدف إلى توجيهه نحو الطريق الصواب. وبالتالي، لا يمكن تحميل الله المسؤولية عن أفعال الإنسان، بل الإنسان هو الذي يجب أن يتحمل نتيجة اختياراته، سواء كانت طاعة أو معصية. فالله قد أعطى الإنسان القدرة على التمييز بين الخير والشر، وبين الصواب والخطأ، وأعطاه الوسائل اللازمة لتحقيق الخير في حياته. وقد وضح الإمام الصادق (عليه السلام) هذا المعنى للزنديق الذي سأله عن العلاقة بين إرادة الإنسان وإرادة الله، والرواية كالتالي:
 عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديقُ أبا عبد الله عليه السلام فقال: أخبرني عن الله عز وجل، كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحِّدين، وكان على ذلك قادراً؟، قال عليه السلام: «لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب؛ لان الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنة ولا نار، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، واحتج عليهم برسله، وقطع عذرهم بكتبه، ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون، ويستوجبون بطاعتهم له الثواب، وبمعصيتهم إياه العقاب، قال (الزنديق): فالعمل الصالح من العبد هو فعله، والعمل الشر من العبد هو فعله؟ قال: العمل الصالح، العبد يفعله والله به أمره، والعمل الشر، العبد يفعله والله عنه نهاه; قال: أليس فعله بالآلة التي ركّبها فيه؟ قال: نعم، ولكن بالآلة التي عمل بها الخير، قدر بها على الشر الذي نهاه عنه، قال: فإلى العبد من الأمر شيء؟ قال: ما نهاه الله عن شيء إلا وقد علم أنه يطيق تركه، ولا أمره بشيء إلا وقد علم أنه يستطيع فعله، لأنه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون، قال: فمن خلقه الله كافراً يستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجة؟ قال عليه السلام: إن الله خلق خلقه جميعاً مسلمين، أمرهم ونهاهم، والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد، ولم يخلق الله العبد حين خلقه كافراً، إنه إنما كفر من بعد أن بلغ وقتاً لزمته الحجة من الله، فعرض عليه الحق فجحده، فبإنكاره الحق صار كافراً، قال الزنديق: فيجوز أن يقدر على العبد الشر، ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير أن يعمله ويعذبه عليه؟ قال عليه السلام: إنه لا يليق بعدل الله ورأفته أن يقدر على العبد الشر ويريده منه، ثم يأمره بما يعلم أنه لا يستطيع أخذه، والإنزاع عما لا يقدر على تركه، ثم يعذبه على ترك أمره الذي علم أنه لا يستطيع أخذه». بحار الأنوار ج5 ص 18
وفي القرآن الكريم، نجد إشارات متعددة إلى أن الإنسان هو الذي يتحمل المسؤولية عن تصرفاته، وأنه قد خُلق ليكون مستخلفاً في الأرض. يقول تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ). (فاطر: 39)، وهذه الآية تعكس فكرة أن الإنسان هو المسؤول عن إعمار الأرض والتفاعل مع البيئة والموارد الطبيعية بما يتماشى مع المقاصد الإلهية. هذا لا يعني أن الإنسان يواجه الحياة بدون توجيه إلهي، بل يعني أن الله قد منح الإنسان جميع الأدوات والإمكانات اللازمة لتحقيق أهدافه، وهو الذي يضع له المعايير والإرشادات التي تقوده نحو الطريق الصحيح. وعليه، فإن الإنسان في الإسلام ليس مجرد متلقٍ للقدر، بل هو الفاعل والمبدع في هذا العالم.

وتعتبر فكرة التسخير التي يقدمها القرآن الكريم أحد أبرز المفاهيم التي تبرز مسؤولية الإنسان في الحياة. يقول الله تعالى: (ألم تروا أن الله سخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض)، (لقمان: 20). فالتسخير لا يعني أن الإنسان مُسلم تماماً لأقدار الله دون تدخل، بل يعني أن الله قد سخَّر له الكون ليعمره، وأنه قد منح الإنسان القدرة على استثمار هذه الموارد والإمكانات لتحقيق أهدافه. فالله قد قدّر للإنسان أن يكون جزءاً أساسياً من عملية الخلق والتطور، وهذا ما يعكسه قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ)، (الأحزاب: 72)، حيث يشير إلى أن الإنسان هو من اختار أن يتحمل المسؤولية.

إن الفهم الصحيح لهذه العلاقة يكمن في إدراك أن إرادة الله لا تعني تقييد إرادة الإنسان أو مصادرتها، بل تعني توجيه إرادة الإنسان في إطار الهداية الإلهية. الله سبحانه وتعالى قد أتاح للإنسان الفرصة لتحقيق التغيير في حياته، ودعاه إلى السعي في الأرض لتحقيق أهدافه والتفاعل مع الآخرين بشكل إيجابي. إذا فشلت الإنسانية في ذلك ونتج عن هذا الفشل جميع هذه المظالم، فلا يحق لها أن تعود وتحمل الله مسؤولية عدم التدخل. 

إن إيكال الأمور إلى الله بحجة العجز عن تغييرها هو موقف يعفي الإنسان من مسؤوليته الشخصية، ويجعله يتنصل من دوره الفاعل في المجتمع. بينما الإنسان هو المسؤول الأول عن إحداث التغيير في حياته وحياة الآخرين، وهذا ما صرح به قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، (الرعد: 11).

من جهة أخرى، يجب أن نتفهم أن التنصل عن المسؤولية الفردية وتوجيه اللوم إلى الله في كل ما يحدث في الحياة، فكرة شيطانية تجعل الإنسان في حالة من الجمود والتخلف والاستسلام للظلم والفقر والاستبداد، فالإيمان بالله يعني التفاعل مع الحياة بكل ما فيها من تحديات وفرص، فعندما نواجه تحديات مثل الفقر أو الظلم، يجب علينا أن نتحمل المسؤولية في معالجتها من خلال العمل الجماعي والتحرك الفاعل لتوفير حلول عملية.

إن الفقر والظلم ليسا نتيجة لعجز الله عن تلبية احتياجات الإنسان، بل هما نتيجة لتقصير الإنسان في استخدام الإمكانيات المتاحة له، أو بسبب جهله وطمعه وظلمه وإفقاره للآخرين. لذلك، فإن العودة إلى الله تعني مقاومة هذه المشكلات وتحمل المسؤولية بعد التوكل عليه والإخلاص في السعي لتحقيق ما يرضيه. إن ذلك يتماشى مع إرادته ويُوجهنا نحو التغيير الإيجابي الذي يعكس قيم العدل والمساواة.

وفي الختام، إن الفهم السليم للإسلام لا يعزز فكرة الاستسلام للظروف وتقبل الفقر والجهل والتخلف بوصفها قدراً مقدوراً يجب الصبر عليه دون السعي لتغييره. فالإسلام يرفض أن ينوب الله عن الإنسان في تحمل مسؤولياته أو أن يعتبر التحديات في الحياة قدراً لا يمكن تجاوزه، فالله سبحانه وتعالى قد منح الإنسان القدرة على الاختيار، وأناط به مسؤولية تغيير واقعه وتحسين حياته، فالفقر والظلم ليسا نتيجة لعجز الله، بل نتيجة لتقصير الإنسان في استخدام الإمكانيات التي منحها له.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م